لقد قررت اليوم أن أنشر رسالة أبينا والتي أرسلها لنا بعد موته بزمن بعيد ولقد اخترت هذه الأيام العظيمة لنشرها.
فهذه الرسالة هي رسالة استثنائيية تختلف عن كل الرسائل العادية التي عرفها الناس فالمرسل هو أعظم محب عرفه التاريخ الإنساني فلقد أحبنا من قبل أن نولد وشهادة هذا الحب خالدة ولقد كان همه الأكبر في حياته هو الدعاء لنا ونحن اليوم ننعم ببركة هذا الدعاء وأما بعد موته فقد أرسل لنا هذه الرسالة الرائعة والتي قررت اليوم أن أضعها بين ايديكم.
وحب أبينا لنا لا تتجرأ لغتي المتواضعة على محاولة التعبيرعنه فالكلمات تعلم أنها ليست أهلا لذلك مهما صيغت ومهما أعيدت صياغتها.
أمام هذا الحب الكبير لا أملك ما أقوله لأبي سوى أني أحبه، أحبه، أحبه وهي رسالة استثنائية لأنها أرسلت من السماء السابعة منذ مئات السنين أرسلها لنا أبونا ليصف لنا فيها وبكلمات مختصرة وجامعة بعض أوصاف وطننا الأم والذي كتب على والدنا الأكبر أن يخرج منه ليعيش كل أبنائه وبلا استثناء في عالم الغربة.
ولقد استوطن الكثير من هؤلاء الأبناء بلاد الغربة بل أن الكثير منهم أصبح يعتقد أن بلاد الغربةهي وطنه الأم مما جعله يبني ويعمر ويستثمر في هذا الوطن الجديد غافلا عن ادخار ما يلزم لنفقات العودة إلى الوطن الأم، والكارثة التي ستحل بهذا الغافل أنه سيطرد يوما من بلاد الغربة وحيدا ذليلا مهانا وسيترك خلفهه كل ممتلكاته، سيطرد وهو لا يملك شيئا تماما على تلك الهيئة التي دخل بها هذه البلاد لأول مرة.
أما أنا وإخوتي والذين خصنا أبونا برسالته فلم نزل نحلم بالعودة يوما الى وطننا الأصلي ولم نزل حتى الآن رغم السنين الطويلة والإغراءات الكثيرة ندخر -بمستويات مختلفة- للإعداد لرحلة العودة وللخروج من هذه البلاد الي نعلم يقينا بأنها ليست وطننا الحقيقي وأننا سنغادرها يوما- إن شاء الله- إلى وطننا الأصلي.
سنترك هوياتنا وكل أوراقنا الثبوتية بل سنترك كل ممتلكاتنا غير آسفين لأننا نؤمن بأن ما ينتظرنا في وطننا الأم لا يقاس بهذه الممتلكات التافهة والتي كنا نملكها يوما في بلاد المجهر.
وهذه الرسالة استثنائية كذلك لأنها تصف لنا أرض الوطن وتصف لنا عذوبة مائه وتصف لنا نباتاته بل أنها ترشدنا إلى طريقة طريقة زرع أراضيه الواسعة والمبسطة وهذه الطريقة تعتبر بحق طريقة متميزة جدا نظرا لبساطتها وسهولتها فعملية غرس النباتات في أرض الوطن لا تحتاج إلا لتحريك اللسان وهو ما أسميته "بالزراعة باللسان" ولا يتطلب منا غرس ألف نخلة غلا ربع ساعة مع أن نخلة واحدة من هذا انلخيل خير من كل نخيل الأرض.
فوطننا شجره ليس كالشجر فظل شجرة واحدة يسير الفارس المسرع مئة سنة ما قطعه.
وترابه ليست كالتراب فحصاها من أنفس المعادن وأغلاها وقصوره ليست كالقصور ونساؤه لسن كالنساء فابتسامة واحدة منهن تبعث من النور ما لا تستطيع كل مولدات الكهرباء في العالم بعثه حتى ولو شغلت في وقت واحد وبكامل طاقتها.
وطننا جميل لا يمكن وصفه فيه ما لا عين رأت وما لا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وطننا لا توجد فيه أية قيود على حرياتنا ولا يوجد فيه شراب حرام ولا أكل حرام فكل ما تشتهيه أنفسنا حلال علينا حرام على غيرنا ويقدمه لنا خدم كاللؤلؤ المنثور في صحاف من ذهب.
أما أولئك الذين اختاروا بلاد الغربة وطنا دائما لهم فلن يعرفوا لهذه الحرية طعما بل سيقيدون في السلاسل عقابا لهم وسيعيشون في عذاب دائم ونكال دائم وهوان دائم.
وطننا لو منح أتعس الناس تأشيرة دخول إليه لنسي كل آلامه وأحزانه بل أنه لو سئل إن كان قد عرف مكروها طول حياته لأجاب بأنه لم يعرف إلا السعادة ومع ذلك فإن التأشيرات إليه توزع في هذه الأيام العظيمة دون أن يكون هناك إقبال مناسب وسيكون يوم الجمعة القادم هو "يوم التأشيرة" لانه توزع فيه من التأشيرات ما لا يوزع في غيره من أيام السنة.
وهذه الرسالة استثنائية كذلك لأنها أرسلت- وهذا يكفيها شرفا- مع سيد ولد آدم والذي سيكون أول من تفتح له أبواب هذا الوطن ليعتلي فيه أرفع الدرجات وأعلى المنازل على لاإطلاق.
ولقد أرسلت معه هذه الرسالة خلال رحلة عظيمة ومشوقة قام بها في جزء من الليل وهي رحلة لم تشهد لها البشرية ولن تشهد لها مثيلا.
رحلة طويت فيها المسافات وتوقف فيها الزمن ولم تعد للكواكب ولا للمجرات أي دلالة بل أن الموت لم يعد فيها قادرا على أن يفرق بين عالمين اتفقنا على تسمية أحدهما بعالم الأموات والآخر بعالم الأحياء فلقد سلم الميت على الحي في هذه الليلة وتحدث الحي مع الميت فيها بل أنهما اجتمعا فيها معا في صلاة واحدة حضرها كل الأنبياء وأمهم فيها خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم.
ولقد أحببت كثيرا هذه الرسالة التي كتبها أبونا الذي لم يجمعنا به "عالم الغربة" وإن كنا نؤمن بانه قد جمعنا به "عالم الذر" والذي شهدنا فيه جميعا حينما أخرجنا ربنامن صلب آدم بأن ربنا هو الله وهي شهادة عاش أبونا في عالم الغربة يدعو الناس إليها ولقد رحل إلى عالم الخلود وهو يؤمن بها إيمانا منح على إثره أوصافا من رب العالمين لم تمنح لغيره.
ونحن اليوم أنا وإخوتي نؤمن بأن ربنا هو الله كما شهدنا بذلك في عالم الذر وهي شهادة نسأل الله أن يميتنا عليها حتى نلتقي بأبينا في عالم الخلود.
كلما قرأت هذه الرسالة رحلت بي الخواطر بعيدا إلى زمن بعيد عاش فيه أبونا ابتلاء عظيما وامتحانا صعبا وهو خارج أرض الوطن الأم.
ولقد اتخذ هذا الامتحان والابتلاء عدة أشكال وألوان ويكفي أخفها لأن يزلزل قلب أعتى الرجال.
ولقد خرج أبونا من كل هذه الامتحانات بأعلى الدرجات وأرفع الشهادات وأسمى الأوسمة وأعلى الميداليات.
لقد ألقي به في أعظم نيران الدنيا ولقد رفض أن يشكو حاله لأمين السماء إيمانا وتوكلا منه على رب السماء والذي جعل من أيامه في النار بردا وسلاما فكانت أسعد أيامه في الأرض.
وقد أمر أن يترك زوجته وولدها الصغير في صحراء جرداء قاحلة لا يسكنها ساكن ثم طلب منه بعد ذلك أن يذبح ابنه الوحيد والذي رزق به بعد أن أصبح شيخا كبيرا.
إنها مواقف ومشاهد عظيمة فيها من الدروس الكثير والكثير ونحن بأمس الحاجة لأن نستلهم منها في هذه الأيام العظيمة دروسا من الإيمان ومن الصبر ومن التوكل ومن الاستقامة نتسلح بها في هذا العصر المليء بالفتن.
لقد كانت هذه الأسرة أسرة مؤمنة صابرة يحق لنا أن نعتز بالانتساب لها ولقد خلد ربنا ذكراها بما لم يخلد به ذكرى أسرة أخرى.
الملايين من المسلمين تجتمع كل عام في أشرف الأيام واشرف الأمكنة لتتبع نفس الخطوات التي خطتها أمنا منذ آلاف السنين وهي تبحث عن جرعة ماء لابنها الصغير الذي كان يصرخ عطشا.
ومئات الملايين من المسلمين تذبح الأضحية في يوم النحر من كل عام وهي سنة أبينا حين فدى الله ولده بذبح عظيم.
ومئات الملايين من المسلمين -وأنا واحد منهم- تتوق أنفسهم كل عام إلى تأدية هذه الشعائر العظيمة إلا أن ظروفهم تحول بينهم وبين ذلك.
ولهؤلاء خاصة وقبل أن أقدم لهم رسالة أبينا فإني أهديهم "حجة ساعة"لها من الأجور أجر حجة وعمرة تامة مع أنها لا تتطلب إلا الجلوس ساعة من النهار ولا تحتاج لقطع تذاكر ولا لأسفار ولا اتنظار مواعيد الخطوط الجوية فعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [من صلى الصبح في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة] قال قال رسول الله صلى عليه وسلم [تامة، تامة، تامة..] رواه الترمذي ولهؤلاء وأولئك أهدي "غنيمة ساعة" وهي لا تحتاج لتضحية بالِأنفس ولا تحتاج لبذل المال لا تحتاج إلا لشجاعة تعبدية وفيها من المغانم الكثير الكثير فعن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الهل عليه وسلم بعث بعثا قبل نجد فغنموا غنائم كثيرة وأسرعوا الرجعة فقال رجل ما رأينا بعثا أسرع رجعة وأفضل غنيمة من هذا البعث فقال النبي صلى الله عليه وسلم [ألا أدلكم على قوم أفضل غنيمة وأسرع رجعة قوم شهدوا صلاة الصبح ثم جلسوا يذكرون الله تعالى حى تطلع الشمس أولئك أسرع رجعة وأفضل غنيمة] رواه الترمذي.
ولهؤلاء وأولئك أقول بأن أجر هذه الساعة لا يتوقف على هذا فلو خصصنا ربع ساعة منها لتلاوة القرآن لجمعنا ما هو خير من مائة ناقة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [أفلا يغدو أحكم إلى المسجد فيعلم أو فيقرأ آيتين من كتاب الله عز وجل خير له من ناقتين وثلاث خير له من ثلاث وأربع خير له من أربع ومن أعدادهن من الإبل] رواه مسلم.
ولو خصصنا ثلاث دقائق فقط من هذه الساعة للتسبيح لاستطعنا أن نحط ذنوبنا حتى ولو كانت مثل زبد البحر ففي الحديث المتفق عليه [من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر].
ولو خصصنا سبع دقائق من هذه الساعة للتهليل لاستطاعنا أن نجعل حرزا بيننا وبين الشيطان طول ذلك اليوم أو تلك الليلة ولكتب لنا ثواب عتق عشرة رقاب من ولد إسماعيل دون أن نعتق نفسا واحدة فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال [من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه]
ولم لا نخصص بضع دقائق من هذه الساعة العجيبة لكلمات يحبها الله وهي خير مما طلعت عليه الشمس لتنفعنا في مواقف ثلاثة هي أصعب مواقف ستواجهنا لن يذكرنا فيها أحد ولن نذكر فيها أحدا وهي الصراط وتطاير الصحف و الميزان فلقد صح عن سول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال [كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان، حبيبتان على الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم]
والذكر من أفضل العبادات ومن أعظمها أجرا خاصة في هذه الأيام التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي رواه الإمام أحمد [ ما من أيام أعظم ولا أحب إلى الله العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد]
ومن هذه الأيام العشر يوم عرفة الذي يصادف لهذا العام يوم الجمعة والذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي قتادة الذي رواه مسلم [صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والتي بعده].
إن هذا العطاء الإلهي لا يحرم منه إلا محروم ولا يستكثره على الله إلا جاهل أحمق فربنا شكور وخزائنه لا تنفد ولقد ترك لنا سليمان مقارنة عجيبة بين أعظم ملك في الدنيا قد يعطى للإنسان وبين أسهل عمل صالح (تسبيحة واحدة).
فسلميان عليه السلام قد خصه الله بملك عظيم امتد فيه سلطانه إلى "عالم الجن" و"عالم الحيوان" و"عالم الطبيعة" و"عالم البشر" وهي عوالم أربعة لم ولن تجتمع في ملك واحد.
وإذا كنا نحن اليوم في عالم ثورة الاتصال نفتخر بأن الصورة تأتينا من أبعد مكان في أقل من ثانية فقد كان سليمان يأتيه الجسد لا الصورة في أقل من ثانية
ولقد مر سليمان عليه السلام بموكبه وجنوده ورجاله ذات يوم على فلاح بسيط يحرث في أرضه فقال ذلك الفلاح لقد صار ملك آل داود عظيما فنظر إليه سليمان عليه السلام وقال [والله لتسبيحة في صحيفة المؤمن خير مما أعطي سليمان وأهله فإن ما أعطي سليمان يزول والتسبحة تبقى].
ولقد صدق سليمان فقد زال سلطانه وبقت تسبيحاته ونحن كذلك سيزول ملكنا إن كان لنا ملك ولن يبقى إلا عملنا الصالح.
فعلينا أن نستثمر هذه الأيام العظيمة وغيرها من الأيام في العمل الصالح خصوصا الذكر وحتى لا أطيل عليكم أكثر من هذا فإني أحيلكم الى رسالة أبينا إبراهيم عليه السلام التي أرسلنا لنا ليلة الإسراء:
عن ابن مسعود رضي الله نه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لقيت ابراهيم صلى الله عليه وسلم ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر]. رواه الترمذي وقال حديث حسن