مروان فارس
في كتابة شوقي بزيع تنتقل الأشياء. إنها هي في رحلة مستمرة بين ما هو مرئي وما هو على غير ذلك، ما هو لمسة وما هو تخيل ليحل النص الشعري في النقاء، في اللاوقت وفي انقضاء الأيام حيث تستجيب الأصوات للألوان فيذهب الشاعر الى ما بعد نظرية شارل بودلير. فإذا كانت الأصوات تلتقي مع الألوان عنده فإن شيئاً على غير ذلك يحصل في »صراخ الأشجار«: أحد يلمس الصوت فلا فرق بين الصوت والصمت هذه القدرة على التحويل تدخل في عالم السحر حيث يغيب المكان في المكان الذي لم يعد مكاناً بلا احتمال تحط فيه الرغبة والرفوف فلا يظهر من الشجر إلا الصراخ.
يلتقي مع ذلك اختصار للمسافة، إذ يلتقي الأوان مع الذكرى من حيث تطلع القصيدة. إن هذا الأمر جديد في القصيدة العربية. فهي تسبح في نهر لا موجة فيه بل هدير متواصل يطيح بالدوائر التي تنشأ من حركة لحجر في مياه ساكتة:
«أكاد ألمس باليدين
رحيق ذاك الصوت
وهو يقل الضوء فوق غنائه المجروح
نهراً من شقائق...»
هنا تولد الكلمة وتصير جسداً. إلا ان هذا الجسد هو جسد امرأة. إذ يلتقي عندها الهتاف لما كان ولما سوف يكون. انه عالم غريب يقود إلى الارتماء في أحضان لا فرق إن كانت من جسد او غير ذلك، مما يعني بأن للشعر إمكانية في تغيير هذا العالم الذي هو حضن أم احتضان.
ذلك لأن الرمز يريد ان يستدرك ذاته.
«كان لا بد لي
من فضاء كهذا
لأوقف تلك البلاد البطيئة عن سيرها
في أعالي الصباحات...
ليستدرك الرمز ما فاته
من شجن...»
إنها أسئلة الشعر تقع هنا في اللاسؤال. لأن الرحلة تذهب باتجاه الفرح. غير ان الفرح شجن، رمز، سؤال عما يرى وعما لا يرى. بذلك تصبح وظيفة القصيدة وظيفة مرئية لما هو غير مرئي. مما يعني ان إمكانية ابتداع العالم من جديد مسألة جاهزة في العقل وفي الخيال. شوقي بزيع في »لا شيء من هذا« يبتدع العالم مرة أخرى، وإن كانت قريته مهدمة:
«لم تقدني إليها الخطى
حين عدت
ولا أمل يائس بالعثور
على صرخة أقفرت...»
أيضا في كتابه هذا انه يبحث عن صراخ. ذلك لأن الصرخة تختصر الوقت. الوقت موت. إنه عنده على غير ذلك: الشجر صراخ، الحب صراخ والموت أيضاً، هكذا تلتقي الأشياء في عالم هو من غير عالم الناس. يمضي كل شيء وتبقى الأسئلة تستبد بالوقت. الا ان أسئلة الشعر لا تأتي إلا بالفرح. غريب هذا العالم حيث يقتل فيه الانتظار الذي هو جوهر السؤال الذي لا يصل الى جواب. لأن الشعر جملة من الأسئلة التي لا تصل يوماً إلى جواب تماماً كما الفلسفة، هي جملة من الأسئلة. عندما تلقي جواباً تصبح علماً. لذلك يتم البحث في قصائد شوقي بزيع عن الكيمياء التي تحول الحزن الى فرح. الا انه هو على عكس أولئك الذين يجدون الفرح. البسمة عنده حزن. لأنه في القرية الضائعة حصل الهتاف للحب يوماً فاختفى الحب واختفى الهتاف لأن المسألة الشعرية تكمن في النوع، نوع الأشياء الضائعة التي لن يستطيع ان يلقاها إلا بالشعر الذي هو تحويل للضياع الى التقاء في قرية الشعر الجميلة:
«وظلت زهرة الرمان
ترمقني بحمرتها
الى أن غبتُ عن مرمى الطفولة،
وحدها الأشجار أولتني عنايتها
وراح حفيفها اليومي
يمحو ذكرياتي...»
إن المسألة الشعرية كلها في الإيقاع، حيث يصطف الشجر تماماً كما تصطف الذكريات في القرية الضائعة.
»إلا أن الجسد لا يمكن إلا أن يكون هو الإيقاع في اللغة« على قول باتريك سوتر، وليس هو الا انتظام أم تصور للموضــوعة في الخطاب في شبكة من العلاقات الغــريبة عن علاقات هذا الكون حيث فيه الشجر غصن والغصن رواية ضائعة.
الجسد والإيقاع
فالجسد والإيقاع عند شوقي بزيع مسألة نقاش داخل اللغة الأخرى التي هي لغة الشعراء. فالجسد والإيقاع هنا يلعبان دوراً واحداً. فالجسد موصوف في الشعر بأوصافه المختلفة، حيناً يعرف الغضب وحيناً لا يعرف إلا الجوع. فإن كان الاتــساع مديــداً وإن كان قصيراً، إنه في الحالتين يبقى ســريعاً في انتقاله من واقع الأمر الى خيبة في حلقة تضارب الأشياء.
هذه العلاقة بين الجسد والإيقاع في كتابة شوقي بزيع تحتاج الى دراسة أخرى غير دراسة الشعر في الخطاب العربي الذي لم يعتد الا الى امرأة واحدة.
في «صراع الأشجار» المرأة واحدة مختلفة. مما يبقي شوقي بزيع في القصيدة العربية الواحدة وإن اختلفت المرأة داخلها. عنده المرأة مختلفة. إنها جسد وإنها أيضا إيقاع. تتراتب داخلها الرغبات كما تتراتب الإيقاعات في القصيدة.
ان الجسد يهرب كما يهرب جندي في غابة. تبقى الغابة الشعرية ويهرب الجسد فيها، يفرح في الضياع لأن الإيقاع هو نظام، نظام للهرب واللقاء. غير ان كل ذلك غناء. فيه تلتقي الأصوات وفيه أيضا تلتقي الأضواء لتصبح قصيدة شوقي بزيع قصيدة في الأضداد لتنطلق منها الصورة الشعرية الجديدة، صورة في الأضداد غير رتيبة متصارعة في داخلها، ذاهبة الى التلاقي في الساقية التي يشرف عليها زهر الرمان وتشرق فوقها شمس امرأة متوحشة. إلا أنها ذات جسد رشيق في عبث اللغة الجميلة.
لأن الإيقــاع متراتــب في الذهن تلتقي النغمات كأنها منتظمة في الضجيج، في تحولات الإيقاعات الداخلية للصورة الشعرية. ففي الصورة ذاتها إيقاعات مختلفة، مرة هادئة ومرة تعرف صخب الموت، ان الفكرة قد هربت من الأشياء:
«في ذلك الركن القصي
حيث أفشل في تعقب فكرة
هربت من الإيقاع،
يحدث فجأة
ان تدخل امرأة الى المقهى...»
وما تبقى من القصيدة أن المتلقي يكتشف الحدث بعد اللقاء لأن القصيدة لقاء داخل الانتظار الذي له إيقاع خاص بالغياب. فالإيقاع بحد ذاته هو موضوعة إذ لا فرق في الجوهر بين الحدث وأدائه. الحدث يتحول الى منظومة من التوزيع. والأداء بحد ذاته إيقاع.
هذه العلاقات داخل النص الشعري تحظى في القصيدة بانتظام لغوي يرفع بالإيقاع من موسيقى داخل النغم الى صورة داخل التخيل. فتنقل حدود البيت الشعري من نهائيات السطر الى نهائيات الصورة المضطربة اضطراب الموجات المتلاحقة بعد هدأة الماء.
شوقي بزيع في كتاباته الشعرية يرسم صورة لجسد امرأة. إلا ان هذا الرسم إيقاع مضطرب في داخله هدوء الماء بعد ان يُلقى في داخله حجر. لذلك تستمر القصيدة في الذاكرة، كما تستمر الدوائر في الماء.